خلال الدورة الستين لمجلس حقوق الإنسان.. هل تنجح الأمم المتحدة في كبح التدهور الحقوقي بروسيا؟

خلال الدورة الستين لمجلس حقوق الإنسان.. هل تنجح الأمم المتحدة في كبح التدهور الحقوقي بروسيا؟
مجلس حقوق الإنسان في جنيف

تعيش روسيا واحدة من أحلك مراحلها في سجل حقوق الإنسان الحديث، حيث تشير تقارير حقوقية وأممية إلى تحول القمع من إجراءات متفرقة إلى منظومة مؤسسية تستند إلى قوانين وتشريعات أُقرت خلال الأعوام الأخيرة، فقد حذرت أكثر من اثنتي عشرة منظمة حقوقية دولية من استمرار هذا المسار، مطالبة بتجديد ولاية المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في روسيا خلال الدورة الستين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

تقول هذه المنظمات الحقوقية في رسالة إلى المجلس الأممي وفقاً لما أورده موقع منظمة "الخدمة الدولية لحقوق الإنسان" السبت، إن الوضع لم يعد مقتصرًا على استهداف المعارضين السياسيين أو الصحفيين المستقلين، بل بات يطول المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان، وحتى المواطنين العاديين الذين يعبرون عن آرائهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

أرقام تكشف حجم الأزمة

المعطيات الأخيرة تكشف عن صورة مقلقة، حيث سجل عام 2024 وحده 145 إدانة بالخيانة، بمعدل إدانة واحدة تقريبًا كل يومين، كثير منها ارتبط بتبرعات إنسانية متواضعة لأوكرانيا، كما أن أحكام السجن التي تتجاوز عشر سنوات أصبحت شائعة حتى في القضايا ذات الطابع السلمي.

وحتى أغسطس 2025، وثقت منظمة "ميموريال" وجود 1091 سجينًا سياسيًا، بينهم مئات حوكموا بسبب تعبيرهم المناهض للحرب أو معتقداتهم الدينية أو مشاركتهم في أفعال رمزية.

واتخذت السلطات إجراءات استهدفت نحو 172 منظمة ووصفتها بالإرهابية، ومنها منظمات للشعوب الأصلية، ما عمّق عزل المجتمعات المهمشة.

تضييق على المجتمع المدني

تشير تقارير إلى أن وسائل الإعلام المستقلة تواجه خطر الاختفاء بفعل القوانين الجديدة التي تفرض حظرًا على الإعلانات ابتداءً من سبتمبر 2025، ما يعني خنقًا اقتصاديًا مقصودًا، كما أن أربعة صحفيين حُكم عليهم في أبريل 2025 بالسجن لأكثر من خمس سنوات لمجرد ارتباطهم بمؤسسة مكافحة الفساد التابعة لأليكسي نافالني، المصنفة كـ"منظمة متطرفة".

إلى جانب الصحفيين، طالت الملاحقات المحامين المدافعين عن شخصيات معارضة بارزة، إذ حُكم على محامي نافالني، ومن بينهم إيغور سيرغونين وأليكسي ليبتسر، بالسجن لسنوات بعد محاكمات مغلقة.

ولم يتوقف القمع عند حدود المؤسسات التقليدية، بل امتد إلى الفضاء الرقمي، فالتشريعات الجديدة تجيز المراقبة في الوقت الفعلي، وتجعل البيانات الشخصية متاحة للسلطات خلال ساعة واحدة فقط، كما حظرت الحكومة برامج مراسلة مشفرة مثل Signal، وقيّدت الاتصالات عبر منصات أخرى.

في يوليو 2025، صدر قانون يجرّم عمليات البحث عن المواد "المتطرفة" عبر الإنترنت، ما يفتح الباب أمام ملاحقات تعسفية واسعة، وقد ساهم سجل الاستدعاء الإلكتروني، الذي أُطلق على مستوى البلاد، في جعل التجنيد الإجباري ومراقبة حركة المواطنين أمرًا آليًا، يزيد من حالة الخوف والرقابة الذاتية.

انتهاكات تطول الفئات الهشة

القيود لا تستثني أحدًا، فقد أدى قرار المحكمة العليا في 2023 بحظر حركة تدافع عن مجتمع الميم إلى ملاحقات بأثر رجعي ضد ناشرين ومواطنين بسبب منشورات قديمة على وسائل التواصل الاجتماعي، كما دخل في ديسمبر 2024 قانون جديد يجرم "الدعاية الخالية من الأطفال"، ما يعني تجريم أي محتوى يُظهر خيار عدم الإنجاب بشكل إيجابي أو محايد.

حتى كبار المدافعين عن حقوق الإنسان لم يسلموا، إذ حُكم في أغسطس 2025 على سيرجي دافيدس، الرئيس المشارك لمنظمة "ميموريال"، بالسجن ست سنوات غيابيًا، ما يعكس إصرار السلطات على إسكات الأصوات المستقلة.

المنظمات الحقوقية الدولية، من بينها العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، اعتبرت أن ما يجري في روسيا لم يعد مجرد تراجع في الحريات، بل "إزالة هيكلية" لإمكانية العمل المدني المستقل، ودعت هذه المنظمات مجلس حقوق الإنسان إلى تجديد ولاية المقرر الخاص المعني بروسيا، باعتباره الآلية الأممية الوحيدة القادرة على توثيق الانتهاكات بشكل مستقل وإبقاء صوت الضحايا حاضرًا على الساحة الدولية.

الموقف الأممي والقانون الدولي

المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، أكد في تقاريره الدورية لمجلس حقوق الإنسان في مارس ويونيو 2025 أن الوضع في روسيا "يتدهور بشكل مطّرد"، وأشار إلى أن التشريعات الأخيرة حول "العملاء الأجانب" و"المنظمات غير المرغوب فيها" حولت القمع إلى ممارسة قانونية، تستهدف المعارضة والمجتمع المدني على حد سواء.

وبموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، تُعد الممارسات الروسية خرقًا واضحًا لالتزامات الدولة في ضمان حرية التعبير، والتجمع السلمي، والمحاكمة العادلة. وقد طالبت الأمم المتحدة مرارًا موسكو بالتراجع عن هذه السياسات، لكن دون استجابة تُذكر.

لروسيا تاريخ طويل مع تقييد الحريات، حيث شكل الاتحاد السوفيتي نموذجًا لسيطرة الدولة على المجتمع المدني، ورغم فترة انفتاح نسبي في التسعينيات، فإن العقدين الأخيرين شهدا عودة تدريجية لسيطرة الدولة على المجال العام، خصوصًا مع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة، الحرب في أوكرانيا منذ 2014 وما تبعها من تدخلات عسكرية عززت خطاب "الأمن القومي"، الذي وظفته السلطات لتشديد قبضتها الداخلية وشيطنة أي صوت معارض باعتباره "عميلًا للخارج".

تداعيات داخلية وخارجية

هذا المشهد المتشدد يحمل تداعيات خطِرة داخليًا وخارجيًا، فمن جهة، يسهم القمع في خنق أي أفق للإصلاح السياسي أو الحراك المجتمعي، ويعمق حالة الخوف لدى المواطنين، ومن جهة أخرى، يعزل روسيا دوليًا، ويعزز من صورتها دولة منتهكة لحقوق الإنسان، وهو ما قد ينعكس على علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الغرب.

لكن ورغم هذه الصورة القاتمة، يواصل المجتمع المدني الروسي في الداخل والخارج محاولاته لتوثيق الانتهاكات والدفاع عن الضحايا، ما يجعل تجديد ولاية المقرر الخاص مسألة حيوية للحفاظ على مساحة دولية تُتيح نقل الحقائق للعالم.

تدل التطورات الأخيرة في روسيا على أن البلاد تشهد تحولًا جذريًا نحو قمع ممنهج يطول جميع شرائح المجتمع. ومع غياب آليات داخلية للمساءلة، تبقى الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية خط الدفاع الأخير لإبقاء ملف حقوق الإنسان في روسيا حاضرًا، وتجديد ولاية المقرر الخاص لا يعني فقط متابعة الانتهاكات، وفق المنظمات الحقوقية الموقعة على البيان بل يمثل اعترافًا بأهمية حماية أصوات الضحايا والمدافعين الذين يقاومون القمع رغم المخاطر الهائلة.

يذكر ان الموقعون على الرسالة الموجهة إلى مجلس حقوق الإنسان هم: منظمة العفو الدولية، سيفيكوس، منتدى المجتمع المدني، بيت الحرية، مؤسسة روسيا الحرة، مؤسسة بيت حقوق الإنسان، هيومن رايتس ووتش، معهد حقوق الإنسان التابع لنقابة المحامين الدولية (IBAHRI)، اللجنة الدولية للحقوقيين، الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، الخدمة الدولية لحقوق الإنسان (ISHR)، مبادرة العدالة المؤسسية، المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب (OMCT).



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية